top of page

مدخل الى تاريخ الفقه الإسلامي

بسم الله الرحمان الرحيم
- مفهوم الفقه :
الفقه في اللغة الفهم واختلف العلماء حوله فذهب فريق الى أنه هومطلق الفهم ، وذهب المحققون الى أنه هو الفهم الدقيق العميق النافذ الى جوهر الأشياء وحقيقتها وفي ذلك يقول تعالى " فما لهؤلاء القوم لايكادون يفقهون حديثا " وقال الرسول الكريم عليه السلام "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ".
 وفي الاصطلاح هو كما عرفه الشافعي " العلم بالاحكام الشرعية العملية المكتسب من ادلتها التفصيلية"
- والفقه بهذا الإعتبار غيرالشريعة:
فالشريعة في اللغة هي المواضع التي يُنحدر إلى الماء منها.
أما في الإصطلاحً  فقد عرفها التهانوي بأنها « ما شرع الله تعالى لعباده من الأحكام التي جاء بها الأنبياء صلى الله عليهم وعلى نبيّنا وسلّم، سواء كانت متعلقة بكيفية عمل، وتسمى فرعية عملية، ودوّن لها الفقه، أو بكيفية الاعتقاد وتسمى أصلية واعتقادية، ودوّن لها علم الكلام».
والفرق بين الفقه والشريعة يتجلى في أمرين أساسين هما:
1- أن الشريعة أعم من الفقه لأنها تشمل الأحكام الاعتقادية والعملية، بينما يقتصر الفقه على الأحكام العملية فقط.
2- أن الشريعة الإسلامية تعني الأحكام المنزلة من عند الله في كتابه الكريم، أو على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم، ومن ثمّ لا يجوز مخالفتها.
أما الأحكام الفقهية فنوعان:
أ- ما ينعدم أو يضعف فيه الجانب الاجتهادي، وذلك مثل الأحكام المعلومة من الدين بالضرورة، أو التي تستفاد من النص الشرعي بلا بحث.
ب- ما يغلب عليه الجانب الاجتهادي، وهذا النوع من الأحكام لا يعتبر جزءاً من الشريعة الإسلامية بمعناها الاصطلاحي، أي لا يعتبر من قبيل التشريع الإلهي الذي لا تجوز مخالفته، بل تسوغ هذه المخالفة ما دامت مستندة إلى دليل أقوى من دليل الرأي الفقهي المتروك.
- موضوع الفقه:
هي أعمال المكلفين من حيث مطالبتهم بها شرعا إما فعلا أو تركا أو تخييرا.
والاحكام الشرعية العملية التي يتناولها الفقه تنقسم عند جمهور الفقهاء الى قسمين رئيسين هما:
1- أحكام العبادات : وهي التي تتناول الاحكام المبينة لعلاقة العبد بربه .
2- أحكام المعاملات : وهي التي تتناول الأحكام الشرعية المنظمة لتعامل الناس في الدنيا، فهي بذلك الأحكام المبينة لعلاقة الناس بعضهم ببعض  وتشتمل على:
1- الاحكام المتعلقة بالاحوال الشخصية : وهي الاحكام التي تنظم العلاقات الأسرية.
2- الاحكام المدنية : وهي التي تنظم العلاقات المالية.
3- الاحكام الجنائية : وهي التي تتناول عقوبات الجرائم المقترفة.
4- أحكام المرافعات : وهي التي تتعلق بالقضاء وإجراءات إقامة العدل.
5- أحكام دستورية : وهي المتعلقة بنظام الحكم وأصوله .
6- أحكام دولية : وهي المنظمة لعلاقة الدولة الاسلامية بغيرها.
ولكل هذه الأنواع من الأحكام الشرعية التي هي موضوع الفقه الإسلامي خصائص تميزها عن غيرها من الأحكام الوضعية.
-  خصائص الفقه الاسلامي عديدة منها:
1- الربانية : فهو تشريع سماوي وليس وضعي.
2- الشمول : فهو يتناول علاقة الانسان بربه وبغيره (العبادات و المعاملات) .
3- الواقعية : لأنه يرتبط بواقع الناس وليس خياليا.
4- الجزاء على مخالفته يرتبط بالدنيا والاخرة : وليس بالدنيا فقط  كما هو حال القانون الوضعي.
 5 -ارتباطه بالأخلاق: فهو لايغفل جانب مكارم الأخلاق عند التشريع وعند تنفيد الأحكام.
- أطوار الفقه الإسلامي:
ان دراسة تاريخ العلوم ومواكية مراحلها التكاملية يفضي الى أن البحث في هذه العلوم والفهم العميق لها أمر لاينفك عن دراسة تاريخها ، اذ به يطلع الباحث على كافة أسرارها وخفاياها ، والفقه الإسلامي كغيره لا يشد عن هذه القاعدة .
وقد اختلف العلماء حول تاريخ الفقه هل هو تاريخ التشريع الإسلامي أم لا ؟
- ذهب معظم من درس تاريخ الفقه الى عدم التمييز بينه وبين تاريخ التشريع الإسلامي.
- وقال البعض بوجود فرق بينهما :
    - فتاريخ التشريع وفق تصورهم يهتم بدراسة كل حكم من أحكام الشريعة فهو بذلك لايتجاوز الفترة النبوية الشريفة ، ويترتب عندهم على ذلك عدم ادخال هذا الطور في تاريخ الفقه الإسلامي.
    - أما تاريخ الفقه فهو يدرس اجتهادات الفقهاء بعد وفاة الرسول عليه السلام والتي تشكل الى جانب الكتاب والسنة التراث التشريعي للأمة الإسلامية ، ويترتب عندهم على ذلك أن بداية تاريخ الفقه الإسلامي ترتبط بوفاة الرسول عليه السلام.
وعند التأمل في هذا التمييز لانجد له ما يبرره بشكل قوي لذلك نختار المذهب الأول القائل بعدم التفريق بين تاريخ الفقه والتشريع والله أعلم.
- وقد مر تاريخ الفقه الإسلامي بمراحل وأطوار اختلف العلماء على تقسيمها من أبرز ذلك:
1- تقسيم الحجوي الثعالبي رحمه الله في كتابه " الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي":
يقسم الحجوي الثعالبي رحمه الله تاريخ الفقه الإسلامي الى أربعة أطوار هي:
-1 طور الطفولية وهو من أول بعثة النبي الى أن توفي عليه السلام.
-2 طور الشباب وهو من زمن الخلفاء الراشدين  رضي الله عنهم الى آخر القرن الثاني.
-3 طور الكهولة من بداية القرن الثالث الى آخر القرن الرابع الهجري.
-4 طور الشيخوخة والهرم وهو ما بعد القرن الرابع الهجري الى الآن. ( انظر الفكر السامي للحجوي 1/39)
وهذا التقسيم يشبه الفقه بالكائن الحي في مروره بأطوار أربعة ، وقد تبع الثعابي في هذا التقسيم محمد يوسف موسى في كتابه " تاريخ الفقه الإسلامي ".
2- تقسيم الشيخ محمد الخضري في كتابه " تاريخ التشريع الإسلامي ":
يقسم محمد الخضري رحمه الله تاريخ الفقه الإسلامي الى ستة أطوار هي:
1- التشريع في حياة الرسول عليه السلام.
2- التشريع في عهد كبار الصحابة من سنة 11 الى سنة 40 هجرية.
3- التشريع في عهد صغار الصحابة والتابعين وينتهي بنهاية القرن الأول من الهجرة.
4- التشريع في العهد الذي صار فيه الفقه علما من العلوم وظهر فيه نوابغ الفقهاء الذين ألقيت مقاليد الزعامة الدينية اليهم وتلاميذهم الذين بينوا آراءهم من غير أن يكون لهذه النسبة أثر في استقلالهم الفقهي وينتهي هذا الدور بانتهاء القرن الثالث.
5- التشريع في العهد الذي دخلت فيه المسائل الفقهية في دور الجدل لتحقيق المسائل المتلقاة من الأئمة وظهور المناظرة وينتهي هذا العهد بانتهاء الدولة العباسية في بغداد وإغارة التتر على بلاد الإسلام.
6- التشريع في عهد التقليد المحض الى الآن. ( انظر تاريخ التشريع الإسلامي للخضري 4)
وهذا التقسيم يصنف أدوار الفقه الإسلامي حسب الأسباب والأحداث التي رافقت تكامله وارتقاءه والتي اقترنت بأسماء جهابذة من الفقهاء الذين لعبوا دورا هاما في إغناء التراث الفقهي ، وقد تبع الخضري في هذا التقسيم مصطفى الزرقا في كتابه " المدخل الفقهي العام" مع إضافته رحمه الله لدور سابع هو من عهد ظهور مجلة الاحكام العدلية الى اليوم ( انظرالمدخل الفقهي العام للزرقا 1/ 146-147)، وقد تبعه كذلك محمد علي السايس في كتابه " تاريخ الفقه الإسلامي " ( انظر تاريخ الفقه الإسلامي للسايس 11 ).
3- تقسيم الشيخ مناع القطان في كتابه " تاريخ التشريع الإسلامي ":   
يقسم مناع القطان تاريخ الفقه الإسلامي الى خمسة أطوار هي:
1- عصر التشريع في عصر الرسول عليه السلام والخلفاء.
2- الدور التأسيسي للفقه ويشمل النتاج الفقهي في العصر الأموي والكلام حول مدرسة الحجاز والعراق.
3- دور النهضة الفقهية وتأسيس المذاهب وتدوين الحديث والفقه.
4- دور التقليد وسد باب الإجتهاد بعد أن استقرت المذاهب.
5- دور اليقظة الفقهية وحركة الإصلاح الديني في الوقت الحاضر لفتح باب الإجتهاد. ( انظر تاريخ التشريع الإسلامي لمناع القطان 25 ).
وهذا التقسيم يصنف أدوار الفقه الإسلامي حسب الأسباب والأحداث التي رافقت تكامله ، وقد تبع القطان في هذا التقسيم عمر سليمان الأشقر في كتابه " تاريخ الفقه الإسلامي" ( انظر تاريخ الفقه الإسلامي لعمر سليمان الأشقر 40).
- وما نختاره في هذه الدراسة هو تقسيم تاريخ الفقه الإسلامي الى أطوار خمسة هي : 
- الاول: عهد الرسول عليه السلام وهو عهد الانشاء والتكوين ، ومدته 22 سنة من بعثته عليه السلام سنة 610 م الى وفاته صلى الله عليه والسلام سنة 632 م .
-  الثاني: عهد الصحابة رضوان الله عليهم وهو يتميز بالتفسير والإجتهاد ، ومدته 90 سنة بالتقريب من وفاة الرسول عليه السلام سنة 11 هجرية الى أواخر القرن الهجري الاول .
-  الثالث: عهد التدوين والأئمة المجتهدين و يتميز بالنمو والنضج التشريعي ومدته 250 من سنة 100 الى سنة 350 هجرية .
-  الرابع: عهد التقليد وهو يتميز بالجمود والتقليد ، وقد ابتدأ من أواسط القرن الهجري الرابع الى أواخر القرن الثالث عشرالهجري.
- الخامس : عهد بوادر النشاط التشريعي الحديث  ويمتد من أواخر القرن الثالث عشرالهجري الى يومنا هذا.
- أهم الفوائد المرجوة من دراسة تاريخ الفقه الإسلامي:
لدراسة تاريخ الفقه الإسلامي فوائد علمية جمة أهمها :
- الوقوف على الأسباب المساعدة على تطور الفقه.
- الإطلاع على الأساليب التي سار عليها الفقهاء وتنوعت من خلالها مناهجهم في الإستنباط .
- الوقوف على الأسباب المعيقة لتطور الفقه.
- الوقوف على تاريخ تطور المصادر التشريعية.
- الوقوف على من كانت بيده سلطة التشريع في كل طور من أطوار الفقه الإسلامي.
- الوقوف على الخطة التشريعية لكل طور من أطوار الفقه الإسلامي.
- الوقوف على ما خلفه كل طور من أطوار الفقه الإسلامي من آثار تشريعية.
وفيما يلي بيان لأهم القضايا التي عالجها علماء الشريعة في أطوار الفقه الإسلامي حسب التقسيم الذي اخترناه:
-1  عهد الرسول عليه الصلاة والسلام : 
-  هذا العهد كانت سنواته قليلة لأنها لم تزد عن 22 سنة وبضعة أشهر ولكن كانت آثاره جليلة لأنه خلف نصوص الاحكام في القرآن والسنة ، وخلف عدة أصول تشريعية كلية ، وأرشد الى عدة مصادر ودلائل يتعرف بها حكم ما لا نص على حكمه وبهذا خلف أسس التشريع الكامل .
-  وقد كان لهذا العهد فترتين متميزتين هما : 
-  الفترة الاولى:مدة وجود الرسول عليه السلام بمكة المكرمة وهي 12 سنة وبضعة اشهر من بعثته الى هجرته عليه السلام .
- وتتميز هذه الفترة :
 - بكون المسلمين كانوا فيها افرادا قلائل مستضعفين ، لم تتكون منهم أمة ولم تكن لهم شئون دولة .
- وكان هم الرسول عليه السلام فيها موجها الى بث الدعوة الى توحيد الله وتحويل وجوه الناس عن الاوثان والاصنام  واتقاء اذى الذين وقفوا في سبيل دعوته وأمعنوا في الكيد له ولمن آمن به .
- لم يوجد في هذه الفترة مجال ولا داع الى التشريع العملي وسن القوانين المدنية والتجارية ونحوها ، ولهذا لم توجد في السور المكية بالقرآن مثل يونس والرعد والفرقان ، ويس والحديد ، آية من آيات الاحكام العملية ، وأكثر آياتها خاص بالعقيدة والخلق والعبر من سير الماضين .
-  الفترة الثانية :مدة وجود الرسول عليه السلام بالمدينة ، وهي عشر سنوات بالتقريب من تاريخ هجرته الى تاريخ وفاته عليه السلام .
- وتتميز هذه الفترة :
- بكون الاسلام عز شأنه وكثر عدد المسلمين وتكونت منهم أمة وصارت لهم  دولة ، وذللت العقبات في سبيل الدعوة .
- ودعت الحاجة الى التشريع وسن القوانين لتنظيم علاقة افراد الامة الناشئة بعضهم ببعض ، وتنظيم علاقاتهم بغيرهم في حالتي السلم والحرب ، وشرعت أحكام الزواج والطلاق والارث والمداينة والحدود وغيرها ، ولهذا اشتملت السور المدنية مثل البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والانفال والتوبة والنور والاحزاب على آيات الاحكام مع ما اشتملت عليه من آيات العقائد والاخلاق والقصص.
-  من تولى السلطة التشريعية في هذا العهد ؟ 
-  كانت السلطة التشريعية في هذا العهد لرسول الله عليه السلام وحده ، وما كان لأحد غيره من المسلمين أن يستقل بتشريع حكم في واقعة لنفسه أو لغيره . لأنه مع وجود الرسول بينهم وتيسر رجوعهم اليه فيما يعرض لهم لم يسوغ واحد منهم لنفسه ان يفتي باجتهاده في حادثة ، او يقضي باجتهاده في خصومة .
-  بل كانوا يرجعون الي الرسول عليه السلام وهو يفتيهم ويفصل في خصوماتهم ويجيب عن أسئلتهم تارة بآية قرآنية يوحي اليه بها ربه سبحانه وتعالى ، وتارة باجتهاده الذي يعتمد فيه على الهام الله له ، او على ما يهديه عقله وبحثه وتقديره ، وكل ما صدر عنه من هذه الاحكام هو تشريع للمسلمين واجب عليهم ان يتبعوه سواء أكانت من وحي الله أم من اجتهاده نفسه .
-  وقد يستشكل على بعض الناس: أن بعض الصحابة اجتهد في عهد الرسول وقضى باجتهاده في بعض الخصومات أو استنبط باجتهاده حكما في بعض الوقائع مثل علي بن ابي طالب الذي بعثه الرسول الى اليمن قاضيا وقال له " إن الله سيهدي قلبك ويثبت لسانك ، فإذا جلس بين يديك الخصمان فلا تقضين حتى تسمع من الآخر كما سمعت من الاول فإنه أحرى أن يتبين لك القضاء " وهناك عدة أمثلة لصحابة آخرين ، ولكن هذه الجزيئات وأمثالها لا تدل على أن أحدا غير رسول الله كانت له سلطة التشريع في عهد الرسول عليه السلام ، لأن هذه الجزئيات منها ما صدر في حالات تعذر فيها الرجوع الى الرسول عليه السلام لبعد المسافة أو لخوف فوات الفرصة ، ومنها ما كان القضاء او الافتاء فيه تطبيقا لا تشريعا ، وكل ما صدر فيها من أي صحابي عن اجتهاده في اي قضاء او اية واقعة لم يكن تشريعا للمسلمين ملزما لهم إلا بإقرار الرسول عليه السلام ، فالرسول عليه السلام في حياته كانت في يده وحده السلطة التشريعية ، ولهذا لم يوجد في عهد الرسول عليه السلام رأيان في واقعة ، ولم يعرف أحد من الصحابة في عهده بالفتيا والاجتهاد .
- مصادر التشريع في هذا العهد: 
كان للتشريع في عهد الرسول عليه السلام مصدران هما الوحي الالهي ، واجتهاد الرسول عليه السلام نفسه .
- فإذا طرأ ما يقتضي تشريعا أوحى الله سبحانه وتعالى الى رسوله عليه السلام بآية أو آيات فيها حكم ما أريد معرفة حكمه ، وبلغ الرسول عليه السلام للمسلمين ذلك وكان تشريعا واجبا اتباعه .
- واذا طرأ ما يقتضي تشريعا ، ولم يوح الله سبحانه وتعالى الى الرسول عليه السلام بآيات تبين الحكم ، اجتهد الرسول في تعرف الحكم ، وما اداه اليه اجتهاده قضى به أو أفتى أو أجاب عن السؤال ، وكان ما صدر عن اجتهاده عليه السلام شرعا واجبا اتباعه مع تشريع الوحي الالهي .
- وكل ما شرع من الاحكام في عهد الرسول كان مصدره الوحي الالهي او الاجتهاد النبوي ، كان صدوره بناء على طروء حاجة تشريعية اقتضته ، وكانت وظيفة الرسول بالنسبة لما شرع بالمصدر الاول تبليغه وتبيينه تنفيذا لقول الله سبحانه " يا أيها الرسول بلغ ما أنزل اليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته " المائدة 67، ولقوله عز شأنه  " وأنزلنا اليك الذكر لتبين للناس ما نزل اليهم " النحل 44. 
-وكان ما صدر عن المصدر الثاني وهو الاجتهاد النبوي تارة تعبيرا عن الهام إلهي ، أي أن الرسول إذا أخذ في الاجتهاد ألهمه الله حكم ما أراد معرفة حكمه ، وتارة استنباطا واستمدادا للحكم بما تهدي اليه المصلحة وروح التشريع والاحكام الاجتهادية التي يلهم بها الله رسوله هي أحكام إلهية ليس للرسول فيها الا التعبير عنها بقوله أو فعله .
- والاحكام الاجتهادية التي لم يلهم الله عز شأنه بها الى الرسول عليه السلام بل صدرت عن بحثه ونظره هي أحكام نبوية بمعانيها وعباراتها وهذه لا يقره الله عليها الا اذا كانت صوابا ، وأما اذا لم يوفق الرسول فيها الى الصواب فإن الله عز شأنه يرده الى الصواب ، مثال ذلك : 
حادث إذن الرسول لمن اعتذروا وتخلفوا عن غزوة تبوك . فإن الله سبحانه بين الصواب بقوله  " عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا وتعلم الكاذبين " التوبة 43.
-  فمن هذا يستنتج ان التشريع في عهد الرسول عليه السلام كان الهيا كله . لان مصدره إما وحي الله عز شأنه في القرآن ، واما اجتهاد الرسول عليه السلام الذي هو تعبير عن الهام الله سبحانه ، واما اجتهاد الرسول عليه السلام ببحثه ونظره ، ولكنه ملحوظ برعاية الله سبحانه له ، فإن جاء صوابا أقره الله سبحانه عليه،وإن جاء غير صواب رد الله رسوله عليه السلام الى الصواب فيه .
- الخطة التشريعية في هذا العهد:
- المراد من الخطة التشريعية الطريق التي يتبعها رجال التشريع في الرجوع الى مصادر التشريع والمبادئ العامة التى يراعونها فيه ، ولما كان هذا العهد هو عهد التكوين ، ووضع الاسس التشريعية كانت الخطة التشريعية فيه ، هي الخطة الاساسية للتشريع الاسلامي .
- فأما الطريق التي اتبعها الرسول علبه السلام في الرجوع الى مصادر التشريع فهي أنه كان إذا طرأت حاجة الى تشريع ينتظر وحي الله بآية أو آيات فيها حكمه ، فإن لم يوح اليه علم أن الله سبحانه وكل التشريع في هذه الواقعة الى اجتهاده فاجتهد مهتديا في اجتهاده بالنصوص  القرآنية وروح التشريع وتقديره المصلحة ومشورة اصحابه .
-  أما المبادئ العامة التي بني عليها التشريع الاسلامي في عهد التكوين فأظهرها اربعة: 
-  الاول التدرج في التشريع: وهذا التدرج كان في زمن التشريع ، والحكمة في التدرج الزمني انه ييسر معرفة الأحكام الشرعية بالتدريج حكما حكما وييسر فهم احكامه على اكمل وجه بالوقوف على الحادثة والظروف التي اقتضت تشريعها .
-  فلم يكلف المسلمون في اول عهدهم بالاسلام بما يشق عليهم فعله او ما يشق عليهم تركه ، بل سلك بهم سبيل التدرج وأخذوا بالرفق حتى تكون استعدادهم واستاهلوا للتكليف .
-  ففي اول امرهم لم تفرض عليهم الصلوات الخمس في اليوم والليلة بل طلبت منهم صلاة مطلقة بالغداة والعشي، ولم تفرض عليهم الزكاة والصيام الا بعد الهجرة بسنة ، وكان التكليف قبل ذلك بما استطاعوا من صدقة وصوم. 
-  والحكمة في هذا التدرج انه العلا ج لإصلاح النفوس الجامحة ، والوسيلة لتقبل التكاليف وامتثالها من غير ضجر ولا عنت ، وهو من الحكمة في الدعوة .
- والثاني التقليل من التقنين: وهذا يتجلى في أن الاحكام التي شرعها الله ورسوله لم تشرع الا على قدر الحاجات التي دعت اليها والاقضية والحوادث التي اقتضتها ولم تشرع منها احكام لحل مسائل إفتراضية او للفصل في خصومات محتملة .
-  والحكمة في هذا التشريع انما هو دفع حاجات الناس وتحقيق مصالحهم ، فينبغي ان يقتصر في كل عصر على تشريع ما اقتضته حاجاته حتى لا يجد اللاحقون من تشريع السابقين عقبات تحول دون تشريع ما يدفع حاجاتهم ويحقق مصالحهم .
- ومن المبادئ المقررة في الشريعة الاسلامية ان الاصل قي الاشياء الاباحة ، فكل حيوان او جماد او عقد او تصرف لم يشرع له حكم باي دليل شرعي فحكمه الاباحة ، وعلى هذا لا حرج من تقليل التقنين ، لان كل ما لا شرع فيه فهو على الاباحة الاصلية .
والثالث  التيسير والتخفيف: وهذا أجلى ظاهرة في التشريع الاسلامي ، ففي كثير من الاحكام تصريح بأن الحكمة في تشريعها التيسير والتخفيف ، قال تعالى "يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر " البقرة 185 وقال عز شأنه "يريد الله ان يخفف عنكم ، وخلق الانسان ضعيفا "النساء 28 وقال سبحانه " وما جعل الله عليكم في الدين من حرج " الحج 78. 
وورد في صحيح السنة ان الرسول ما خير بين امرين الا اختار ايسرهما ما لم يكن اثما ، وفي كل الحالات الخاصة التي يكون فيها حكم العزيمة شاقا ، شرعت الرخصة ، فابيحت المحظورات عند الضرورات ، وابيح ترك الفرض والواجب اذا كان في اداء احدهما حرج . واعتبر الاكراه والمرض والسفر والخطأ والنسيان والجهل من الاعذار التي تقتضي التخفيف .
والرابع مسايرة التشريع لمصالح الناس: وبرهان هذا ان الشارع علل كثيرا من احكامه بمصالح الناس ، وأورد شواهد عدة على ان المقصود من تشريع الاحكام تحقيق مصالح الناس ، وقرر ان الاحكام تدور مع عللها وجودا وعدما ، ولهذا شرع الله بعض الاحكام ثم ابطلها ونسخها لما اقتضت المصلحة تعديلها ، مثال ذلك فرض الاتجاه في الصلاة الى بيت المقدس أولا ، ثم نسخه وفرض الاتجاه في الصلاة الى الكعبة ، ونهى الرسول عليه السلام عن زيارة القبور ثم اباحها ، فهذا النسخ والتبديل والتعديل في وقت التشريع برهان على ان التشريع الاسلامي ساير مصالح الناس . ولهذه المسايرة نفسها راعى الشارع عرف الناس وقت التشريع ما دام لا يهدم اصلا من اصول الدين ، فراعى الكفاءة في الزوج ، وراعى العصبية في الارث والولاية ، لان من مصالح الناس ان تراعي عاداتهم وما جرى به عرفهم ما دام لا يعارض أصلا دينيا ولا يجلب ضررا .
- ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية: 
- المصدر التشريعي الاول وهو الوحي الالهي صدرت عنه آيات الاحكام في القرآن والمصدر التشريعي الثاني وهو اجتهاد الرسول صدرت عنه أحاديث الاحكام . ومجموع نصوص هذه الآيات والاحاديث هو ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية ، وهو المصدر الاساسي للمسلمين ، وهو أساس التشريع ومرجع كل مجتهد مسلم في اي عصر من العصور .
-  فإذا وقعت واقعة ودل على حكمها نص قاطع من نصوص هذه المجموعة فلا مجال فيها لاجتهاد اي مجتهد في اي عصر من العصور . 
- وإذا لم يدل على حكمها نص قاطع من نصوصها كانت مجالا للاجتهاد ، ولكن على ان يسير المجتهد في اجتهاده على ضوء هذه المجموعة بان يقيس على ما ورد فيها ، او يهتدي بروحها ومعقولها ومبادئها العامة ، وليس له ان يخالف باجتهاده نصا من نصوصها ، او يخرج عن مبدإ من مبادئها .
-  مقدار النصوص المرتطة بالأحكام الفقهية:
مواد النصوص المرتطة بالأحكام الفقهية ليست كثيرة ، فعدد آيات الاحكام المتعلقة بالعبادات وما يلحق بها من الجهاد نحو 140 آية ، وعدد الآيات المتعلقة بالمعاملات والاحوال الشخصية والجنايات والقضاء والشهادة نحو 200 آية ، وعدد أحاديث الاحكام في انواعها المختلفة نحو 4500 حديث ، كما ذكره ابن القيم في " إعلام الموقعين " وأكثرها تبيين لما أجمل من أحكام القرآن او تقرير وتأكيد . وباقيها تشريع سكت عنه القرآن . 
-  وآيات الاحكام في القرآن مفرقة في جملة سور ، وليست الآيات الخاصة بمجال تشريعي واحد مجموعة في سورة واحدة ، فآيات العقوبات وهي نحو عشر آيات مفرقة في سورة البقرة والمائدة والنور . وآيات المجموعة المدنية وهي نحو سبعين آية مفرقة ايضا في جملة سور ، وهكذا سائر آيات الاحكام .
-  وأما أحاديث الاحكام فقد جمعها رواة الاحاديث حسب ابواب الفقه ، فأحاديث البيع مجموعة في باب البيع ، وأحاديث الرهن والشركة والحدود وغيرها كذلك .
- ومن اليسير ان تجمع في كل مجال تشريعي آيات الاحكام الخاصة به ، وأمهات الاحاديث الخاصة به ، وبعض آثار الصحابة والتابعين التي فيها تفسير لنص من هذه النصوص ، وتكون هذه المجموعة هي الاحكام الاساسية التي وردت في القرآن والسنة الخاصة بهذا الفرع من القوانين .
-  اسلوب النصوص المرتبطة بالأحكام الفقهية:
- لم تلتزم آيات الاحكام وأحاديث الاحكام أسلوبا واحدا في بيان ما شرع فيها بل تنوعت أساليبها وتعددت صيغها في التعبير عن الاحكام فالنصوص التي دلت على التحريم تارة عبرت بالنهي عما حرم ، وتارة دلت على تحريمه بالوعيد من فعله ، وتارة صرحت بأنه لا يحل أو حرم ، والنصوص التي دلت على الايجاب تارة عبرت بالامر بما وجب ، وتارة دلت على ايجابه بالوعيد على تركه ، وتارة صرحت بأنه وجب او فرض او كتب ، والسبب في تنوع هذه الاساليب ان النصوص كما قدمنا شرعت في أوقات مختلفة حسب الحوادث والمناسبات ، ولكل مناسبة اسلوب يناسبها ، فقد تقتضي المناسبة الدلالة على تحريم الشيئ بالوعيد على فعله ، وقد تقتضي التصريح بتحريمه ،فالمناسبة التي اقتضت تشريع الحكم الخاص اقتضت اسلوبا خاصا في بيانه .
-  وسبب آخر لتنوع هذه الاساليب ان القرآن لم يقصد منه بيان ما تضمنه التشريع فحسب ، وإنما قصد منه مع هذا إعجاز الناس عن أن يأتوا بمثله ليكون برهانا على صدق الرسول ، ومن وجوه الاعجاز تنوع اساليب البيان .
-  وكما تنوعت أساليب النصوص من ناحية صيغها وعباراتها ، تنوعت من ناحية أخرى وهي ان بعض النصوص تتبع بيان الحكم ببيان علته وحكمته التشريعة ، وبعضها تقرر الحكم مجردا عن بيان علته . والحكمة في هذا ان الشارع ببيانه علة التشريع وحكمته في بعض الاحكام يلفت العقول الى ان الاحكام التشريعية ليست تعبدية وإنما هي معللة بمصالح الناس ، ويفتح باب الاجتهاد في تشريع كل ما يحقق مصلحة او يدفع مفسدة .
-  أنواع الاحكام التي اشتملت عليها النصوص الشرعية: 
-  الاحكام على وجه عام تنقسم الى ثلاثة اقسام:
- القسم الاول:  احكام اعتقادية تتعلق بالايمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وهذا هو أساس الدين . 
-  القسم الثاني:أحكام خلقية تتعلق بالفضائل التي يجب على الانسان ان يتحلى بها ، والرذائل التي يجب على الانسان أن يتخلى عنها وهذا القسم مكمل لأساس الدين ومتمم له ، وقد افاض القرآن وأسهبت السنة في بيان هذين القسمين وإقامة براهينهما ، وقد ابتدأ امر الاسلام بهما ، فكان المسلمون في مكة لا يخاطبون الا بعقائد وأخلاق لأن تكوين العقيدة وتقويم الخلق هما الاساس الذي يبني عليهما كل تشريع وتقنين
-  القسم الثالث: أحكام عملية تتعلق بالمكلفين من عبادات  ومعاملات  وجنايات  وخصومات  وعقود وتصرفات ، وهذا هو الفقه وهو المراد من الاحكام عند الاطلاق . ومن تتبع فقه القرآن والسنة وجد ان كل فرع من فروع التشريع له في القرآن مواد تخصه وتبين أحكامه ، وفي كل فرع من هذه  الفروع كثير من الاحاديث ، بعضها يبين حكما أجمله القرآن . وبعضها يشرح حكما سكت عنه ، وبهذا خلف عهد الرسول تشريعا كاملا وافيا بحاجة المسلمين في كل زمان وفي كل بيئة .
2 – عهد الصحابة رضوان الله عليهم  : 
هذا العهد ابتدأ بوفاة الرسول عليه السلام في سنة 11 هجرية وانتهي في اواخر القرن الهجري الاول ، واطلق عليه العلماء عهد الصحابة لأن الإجتهاد فيه تولاه علماء صحابة رسول الله عليه السلام  ومنهم من عاش الى العقد العاشر الهجري مثل انس بن مالك الذي توفي سنة 93 هـ رحمه الله ، وهذا العهد هو عهد التفسير التشريعي وفتح أبواب الاستنباط فيما لا نص فيه من الوقائع . فإن علماء الصحابة صدرت عنهم آراء كثيرة في تفسير نصوص الاحكام من القرآن والسنة تعد مرجعا تشريعيا لتفسيرها وتبيينها وصدرت عنهم فتاوى كثيرة باحكام في وقائع لا نص فيها تعتبر اساسا للاجتهاد والاستنباط 
-  من تولى سلطة الإجتهاد في هذا العهد ؟
خلف العهد التشريعي الاول والذي هو عهد الرسول عليه السلام ، للمسلمين تشريعا مكونا من نصوص الاحكام في القرآن والسنة ومواد هذه الأحكام الشرعية ليس كل واحد من المسلمين أهلا لأن يرجع اليها بنفسه ويفهم ما تدل عليه من تشريعات ، لأن فيهم العامة الذين لا يتوصلون الى فهم النصوص الا بواسطة من يفهمهم اياها . 
- ومن جهة ثانية :مواد هذه الأحكام الشرعية لم تكن نشرت بين المسلمين نشرا عاما يجعلها في متناول كل واحد منهم لأن نصوص القرآن كانت في أول هذا العهد مدونة في صحف خاصة محفوظة في بيت الرسول عليه السلام وبيوت بعض أصحابه رضي الله عنهم وفي صدور بعض الصحابة ، والسنة كانت كذلك  في هذا العهد مدونة في صحف خاصة محفوظة عند بعض الصحابة رضوان الله عليهم وفي صدور بعض الصحابة .
- ومن جهة ثالثة:الأحكام الشرعية شرعت لحوادث وأقضية وقعت حين تشريعها . ولم تشرع أحكاما لحوادث فرضية يحتمل وقوعها . وقد طرأت للمسلمين حاجات وحوادث وأقضية لم تطرأ في عهد الرسول ولا يوجد فيما خلفه من النصوص ما يدل على حكمها .
لهذه الاسباب الثلاثة ، رأى العلماء من الصحابة وخاصة كبارهم رضوان الله عليهم ان عليهم واجبا تشريعيا لا بد أن يقوموا به ، وهذا الواجب هو ان يبينوا للمسلمين ما يحتاج الي التبيين والتفسير من نصوص الاحكام في القرآن والسنة ، وأن ينشروا بين المسلمين ما حفظوا من آيات القرآن وأحاديث الرسول ، وان يفتوا الناس فيما يطرأ لهم من الوقائع والاقضية التي لا نص فيها .
هؤلاء العلماء من الصحابة قاموا بهذا الواجب التشريعي من بيان النصوص ونشرها ، والافتاء فيما لا نص فيه ، فهم الذين تولوا الإجتهاد في هذا العهد ، وهم الذين خلفوا الرسول في رجوع المسلمين اليهم ، ولم يكتسبوا هذا الحق التشريعي من تعيين الخليفة او انتخاب الامة ، وانما كسبوه بمميزاتهم الشخصية التي امتازوا بها. فقد طالت صحبتهم للرسول وحفظوا عنه القرآن والسنة . وشاهدوا اسباب نزول الآيات وورود السنن وكثيرا منهم كانوا مستشاري الرسول عليه السلام في اجتهاده . وقد كان هؤلاء المفتون في اول العهد أكثريتهم العظمي بالمدينة ، وبعد ان امتدت الفتوحات الاسلامية تفرقوا بالامصار . ولهذا كان التشريع في اول العهد بالاجتهاد الجماعي ، ثم صار بالاجتهاد الفردي.
- مصادر التشريع في هذا العهد :
كانت مصادر التشريع في هذا العهد ثلاثة هي  القرآن ، والسنة ، واجتهاد الصحابة .
فكانت اذا عرضت حادثة أو وقعت نازلة نظر أهل الاجتهاد من الصحابة في كتاب الله ، فإن وجدوا فيه نصا يدل على حكمها أمضوه ، وإن لم يجدوا في كتاب الله نصا وعلموا من السنة ما يدل على حكمها أمضوه ، وإن لم يجدوا ما يدل على حكمها في القرآن أو السنة اجتهدوا في معرفة حكمها واستنبطوه بالقياس على ما ورد فيه النص او بما تقتضيه روح الشريعة ومصالح الناس . واتفقت كلمة العلماء من الصحابة على الرجوع الى هذه المصادر التشريعية الثلاثة على الترتيب الذي ذكرناه .
- ما طرأ على مصادر التشريع في هذا العهد:
وقد طرأ في هذا العهد على:
- المصدر الاول : وهو آيات الاحكام في القرآن طارئ له أثر تشريعي خالد . وهو تدوين هذه الآيات ضمن تدوين القرآن الكريم ونشرها على المسلمين كافة بطريق رسمي بحيث صار ميسورا لكافة المسلمين أينما كانوا حفظها والعلم بنصوصها من غير اختلاف في كلمة او جملة .
-  وأما المصدر التشريعي الثاني : وهو نصوص الاحكام في السنة التي لم تكن في متناول العموم لأنها الى حدود نهاية القرن الأول لم تكن قد دونت بشكل رسمي ، بل اقتصر تدوين بعضها في  صحف خاصة محفوظة عند بعض الصحابة رضوان الله عليهم ، مما اضطر علماء المسلمين الى بذل جهود في البحث عن رواة الاحاديث ودرجات الثقة بهم ، مما أدى الى انقسام الاحاديث باعتبار رواتها الي احاديث قطعية الورود متواترة وأحاديث ظنية الورود آحاد ، والظنية الي صحيح وحسن وضعيف ، ووضع علم رواية الحديث ، وألفت عدة مؤلفات فيه.
-  وأما المصدر التشريعي الثالث : وهو اجتهاد بعض العلماء من الصحابة فلم يدون أيضا من آثار هذا العهد شئ ، وكان تقديرهم لإجتهاداتهم أنها آراء فردية إن تكن صوابا فمن الله ، وإن تكن خطأ فمن أنفسهم ، وما كان أحدهم يلزم الآخر أو يلزم اي مسلم باجتهاده ، وكثيرا ما خالف عمر أبا بكر ، وكثيرا ما تحاج زيد بن ثابت وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم جميعا ، والوقائع التي اختلف الصحابة في أحكامها كثيرة ، وأدلتهم التي استشهدوا بها على اجتهاداتهم تدل على مبلغ حريتهم في البحث وتحريهم جلب المصالح ودرء المفاسد .
-  وكانوا رضي الله عنهم في اول عهدهم أي في خلافة ابي بكر وأول خلافة عمر ، يتولون الإجتهاد فيما لا نص فيه بشكل جماعي مكون من علمائهم ، وما يصدر عنهم من الاحكام يعتبر اجماعا لهم أوحكم جماعتهم .
وبهذا الاجتماع كان الاختلاف في الآراء نادرا ، لأن كل واحد من المجتهدين المجتمعين يبدي للآخرين ما عنده من وجهة نظر وما يستند إليه من أدلة وكلهم يبغي الحق والصواب . وأكثر الأحكام التي يقال فيها انها أجمع عليها الصحابة شرعت في هذه الفترة من هذا العهد .
- أما بعد أن فتح الله للمسلمين كثيرا من البلاد وتفرق علماء الصحابة في مختلف الامصار ، وصار غير ميسور للخليفة بالمدينة أن يجمع هؤلاء الصحابة ، من الكوفة والبصرة والشام ومصر وغيرها كلما عرضت واقعة ليس فيها نص من القرآن أو السنة ، فقد أخذ الصحابة يتولون الإجتهاد أفرادا أو جماعات ، وكان بكل مصر من أمصار المسلمين واحد أو أكثر تصدر عنهم الفتوى فيما لا نص فيه والتبيين والتفسير للنصوص الشرعية .
- ومن النتائج الحتمية لهذا أن يقع اختلاف بينهم في أحكام كثيرة من الوقائع لعدة أسباب : 
- أولها :أن نصوص الأحكام في القرآن والسنة ليست قطعية الدلالة على المراد منها ، بل هي ظنية الدلالة ، وكما تحتمل أن تدل على معنى تحتمل أن تدل على معنى آخر ، بسبب أن في النص لفظا مشتركا لغة بين معنيين أو أكثر . أو أن فيه لفظا عاما يحتمل التخصيص . او لفظا مطلقا يحتمل التقييد . فكل مجتهد يفهم منه حسب ما ترجح عنده من القرائن ووجهات النظر .والجزئيات التي اختلفوا فيها بناء على اختلافهم في فهم النص الشرعي .
- وثانيها : أن السنة لم تكن مدونة بشكل رسمي ولم تجتمع الكلمة على مجموعة منها ولم تنتشر بين المسلمين لتكون مرجعا لهم على السواء ، بل كانت تتناقل بالرواية والحفظ ، وربما علم منها المجتهد في مصر ما لم يعلمه المجتهد في دمشق . وكثيرا ما كان يرجع بعض المجتهدين منهم عن فتواه إذا علم سنة لم يكن يعلمها الآخر.
- وثالثها : أن البيئات التي يعيشون فيها مختلفة والمصالح والحاجات التي يجتهدون لها متفاوتة ، فعبد الله بن عمر بالمدينة لا يطرأ له ما يطرأ لمعاوية بن ابي سفيان في الشام ،ولا ما يطرأ لعبد الله بن مسعود بالكوفة رحمهم الله جميعا . فنتيجة اختلاف البيئات اختلفت الانظار في تقدير المصالح والبواعث على تشريع الاحكام .
لهذه الاسباب الثلاثة وجدت فتاوي مختلفة للصحابة رضي الله عنهم في الواقعة الواحدة ، ولكل واحد منهم دليل على ما أفتى به .
ولقد كان منهج الصحابة رضوان الله عليهم في الاجتهاد هو الاقتصار على تشريع ما تدعو اليه الحاجة فقط ، وعدم سبق الحوادث بالتشريع ، ومسايرة المصالح ، ورعاية التيسير والتخفيف.
- ما خلفه هذا العهد من الآثار التشريعية :
يمكن رصد أهم الاثار التشريعية التي خلفها هذا العهد في ثلاثة : 
- الاول: شرح علمي لنصوص الأحكام من القران والسنة ، فإن مجتهدي الصحابة لما بحثوا في هذه النصوص لتطبيقها على الوقائع تكونت لهم آراء في فهمها وما يراد منها ، وكانوا في تقدير آرائهم يستندون الى ملكتهم اللسانية ، وملكتهم التشريعية ، وما وقفوا عليه من مقاصد التشريع وأسباب نزول القرآن ، وورود السنة . فمن مجموع هذه الآراء تكون شرح لنصوص الاحكام يعد أوثق مرجع لتفسيرها وبيان اجمالها ووجوه تطبيقها ويتجلي هذا في كتب تفسير القرآن بالمأثور كتفسير محمد بن جرير الطبري رحمه الله.
- والثاني: عدة فتاوي اجتهادية صدرت عن الصحابة في وقائع لا نص على حكمها . وبهذا الاستنباط شرعوا أحكاما كثيرة لوقائع عديدة في مختلف البلدان . وقد عني بعض رجال الحديث في اول عهد التدوين الرسمي للسنة  بأن يدونوا فتاوى الصحابة في مختلف ابواب احكام السنة ، وسيتبين في العهد التشريعي الثالث ان الاحتجاج بهذه الفتاوي كان موضع اختلاف الائمة ، فمنهم من لا يخرج عنها ومنهم من يخالفها .
3- عهد الأئمة المجتهدين رحمهم الله:
هذا العهد ابتدأ في أول القرن الثاني الهجري وانتهى في أواسط القرن الرابع الهجري فهو بالتقريب 250 سنة . وسمي هذا الطور  بعهد الائمة المجتهدين لأن أئمة المذاهب الفقهية عاشوا فيه وتميز بازدهار حركة الكتابة والتدوين ، فدونت السنة بشكل رسمي ، وفتاوى المفتين من الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم وتفاسير القرآن الكريم وفقه الائمة المجتهدين ، وكتبت مصنفات في علم اصول الفقه ، ولأن مواهب عدد كبير من رجال الاجتهاد والتشريع ظهرت فيه وسرت فيهم روح الإجتهاد الذي كان له اثر خالد في التقنين واستنباط الاحكام لما وقع وما يحتمل وقوعه .
ويعتبر هذا الطورهو العهد الذهبي للتشريع الاسلامي فقد نما فيه ونضج ، وأثمر ثروة تشريعية أغنت الدولة الاسلامية بالتشريع والاحكام على سعة ارجائها واختلاف شؤونها وتعدد مصالحها .
-  الاسباب التي أدت الي نمو الفقه الاسلامي ونشاط حركة الاجتهاد في هذا العهد كثيرة أهمها  :
- أولا:  أن الدولة الاسلامية في هذا العهد اتسعت رقعتها ، وتباعدت اطرافها وشملت برعايتها كثيرا من الشعوب المختلفة والاجناس والعادات والمعاملات والمصالح فحدود الدولة الاسلامية امتدت شرقا الى الصين وغربا الى بلاد الاندلس .وهذه البلدان لا بد لها من تشريعات يرجع اليها قضاتها وولاتها ، وفتاوى يرجع اليها أفرادها ولا مصدر لهذا التقنين والافتاء الا مصادر الشريعة .لهذا بذل العلماء جهودهم في الرجوع الى هذه المصادر ، واستمدوا من نصوص الشريعة وروحها وما أقامه الشارع من قواعد ، أحكام ما طرأ للدولة من مصالح وحاجات ، بل زاد نشاطهم فشرعوا احكاما لحوادث فرضية ، وبهذا النشاط لم يضق التشريع الاسلامي بحاجة ولم يقصر عن مصلحة . و قد بث النشاط السياسي روح النشاط  والابتكار في كل شؤون الدولة .
- وثانيا:ان الذين تصدوا للتقنين والافتاء في ذلك العهد وجدوا طرق الإجتهاد ممهدة ، وصعابه ميسرة ، لأنهم وجدوا المصادر التشريعية في متناولهم ووجدوا كثيرا من الوقائع والمشاكل قد عالجها سلفهم من قبلهم . فالقرآن مدون ومنشور بين خاصة المسلمين وعامتهم ، والسنة مدون أكثرها بشكل رسمي من بدء القرن الثاني الهجري ، وكذلك فتاوى الصحابة والتابعين .
فاليسر الذي وجده مجتهدوا ذلك العهد في رجوعهم الى القرآن والسنة . والنور الذى لمحوه من فتاوى سلفهم من الصحابة وتابعيهم ، ومن آثارهم في تفسير النصوص كانا من عوامل نشاطهم ، ووفرة إنتاجهم فاستثمر الخلف عقله وعقل سلفه .
- وثالثا: ان المسلمين في ذلك العهد كانوا شديدي الحرص على أن تكون جميع أعمالهم من عبادات ومعاملات وعقود وتصرفات على وفق أحكام الشريعة الاسلامية ، فلهذا كانوا في كل شؤونهم يرجعون الى أولي العلم والفقه يسألونهم عن الحكم الشرعي . ومن هذا اتصلت جهودهم ونما انتاجهم .
- رابعا: نشأ في ذلك العهد أعلام لهم مواهبهم واستعداداتهم ، وساعدتهم البيئة التي عاشوا فيها على استثمار هذه المواهب والاستعدادات . فتكونت الملكة التشريعية لكثير من أفذاذهم أمثال أبي حنيفة وأصحابه ، ومالك وأصحابه والشافعي وأصحابه ، وأحمد وأصحابه وغيرهم من معاصريهم من الائمة المجتهدين رحمهم الله جميعا واقتدوا بهذه الملكات على تنمية الفقه الاسلامي وسد الحاجة التشريعية للدولة .
- من تولى سلطة الإجتهاد في هذا العهد :
  لازم الصحابة الذين تصدوا للافتاء والإجتهاد في مختلف الامصار جماعة من التابعين أخذوا عنهم القرآن ، ورووا عنهم السنة ، وحفظوا فتاويهم ، وفهموا منهم أسرار التشريع ، وطرق استمداد الاحكام ، وهؤلاء التابعون منهم من كان يستفتى ويفتي في حياة الصحابة أنفسهم مثل سعيد بن المسيب بالمدينة وعلقمة بن قيس ، وسعيد بن جبير بالكوفة ، حتى أنه روي أن عبد الله بن عباس كان اذا حج أهل الكوفة واستفتوه قال لهم اليس فيكم سعيد بن جبير رحمهم الله جميعا. 
-  وقد لازم هؤلاء التابعين في حياتهم جماعة من تابعي التابعين تلقوا عنهم ما تلقوه عن الصحابة ، من القرآن والسنة ، وأخذوا عنهم ما علموه من الفقه وأسرر التشريع . ولازم تابعي التابعين ، جماعة من طبقة الائمة المجتهدين ، ومعاصريهم من رجال التشريع .
-  فلما انقرض رجال التشريع من الصحابة خلفهم في تولى سلطة التشريع تلاميذهم من التابعين ، وخلف هؤلاء تلاميذهم من تابعي التابعين ، وخلف هؤلاء تلاميذهم من الائمة المجتهدين وأقرانهم .
-  فكان رجال التشريع في كل مصر من أمصار المسلمين طبقات ، وكل طبقة يعد رجالها تلاميذ لسلفهم وأساتذة لخلفهم ، ومن لازموا المشرعين في حياتهم ، وأخذوا عنهم علمهم وفقههم تصدوا لإفتاء الناس من بعدهم ، والقيام بما كان يقوم به أساتذتهم ، وبهذا اتصلت حركة التشريع في الامصار .
- ولم يكتسب أهل الإجتهاد من كل طبقة من هذه الطبقات سلطة الإجتهاد من تعيين الخليفة او انتخاب الامة ، وانما وثق المسلمون بهم كما وثقوا بأساتذتهم من الصحابة واطمأنوا الى عدالتهم وضبطهم وعلمهم وفقههم فرجعوا اليهم يسألهم الولاة والقضاة في الاقضية والخصومات ، ويستفتيهم الافراد في وقائعهم . وما يطرأ لهم من حاجات ، وكانت كل طبقة ترث من سلفها العلم والثقة واطمئنان المسلمين الى بيانهم للنصوص الشرعية وفتاويهم فيما لا نص فيه .
-  وكان أكثر أهل الإجتهاد في هذا العهد يقومون بتدريس العلوم الشرعية ورواية الحديث ، ومنهم من ولي القضاء مثل شريح والشعبي وأبي يوسف . ومنهم من كان يتجر كأبي حنيفة رحمهم الله جميعا . فلم يكن الافتاء وظيفة ينقطع لها المفتي . وانما كان واجبا يتصدي للقيام به من أنس في نفسه القدرة على أدائه مع اشتغاله بوظيفته او تجارته او دراسته .
-  مصادر التشريع في هذا العهد : 
كانت مصادر التشريع في هذا العهد أربعة هي القرآن والسنة والاجماع والاجتهاد بالقياس او بأي طريق من طرق الاستنباط . فكان المفتي اذا وجد نصا في القرآن او السنة يدل على حكم ما استفتي فيه وقف عند النص ولا يتعدى حكمه ، واذا لم يجد في الواقعة نصا ووجد سلفه من المجتهدين أجمعوا في هذه الواقعة على حكم ، وقف عنده وأفتى به واذا لم يجد نصا على حكم الواقعة ولا اجماعا على حكم فيها اجتهد واستنبط الحكم بالطرق التي ارشد اليها الشارع للاستنباط .
-  ما طرأ على مصادر التشريع في هذا العهد : 
  طرأ على المصدر التشريعي الاول وهو القرآن الكريم في هذا العهد طارئان لهما أثرهما في حفظه وضبطه وصونه من أي تحريف . 
- الاول: عناية طائفة من المسلمين بحفظه جميعه ، وتصديهم لتلقي الحفاظ عنهم ، وأشهر هؤلاء القراء السبعة وهم نافع  مقرئ المدينة (ت 169ه)، وعاصم مقرئ الكوفة (ت 193ه) ، وحمزة مقرئ الكوفة ( ت 156ه)، وعبدالله بن عامر مقرئ دمشق (ت 118ه) ، وعبدالله بن كثير مقرئ مكة (ت 120ه) ، وأبو عمرو بن العلاء مقرئ البصرة (ت 154 ه) ، وعلي بن حمزة الكسائي مقرئ الكوفة (ت 189ه) وقد اشتهروا بالحفظ والضبط والاتقان . وما توفوا في القرن الثاني الهجري الا وقد خلفهم في الحفظ والضبط تلاميذهم . وخلف هؤلاء تلاميذهم واتصل سند الحفاظ الذين تنافسوا في الضبط وساعد ذلك على ازدياد حفظة القرآن والتنافس في حفظه لأن تلاوته عبادة وهو يتلى في كل صلاة .
- والطارئ الثاني: ادخال الاصلاح في رسم كتابته وشكل حروفه ، وذلك ان المصحف الذي دون في عهد عثمان بن عفان رضي الله عنه ومنه نسخت عدة مصاحف ووزعت في الامصار كان مكتوبا بالخط الكوفي بلا نقط ولا شكل ، وكان الاعتماد في قراءته على التلقي من الحفظة ،  وبهذا الاصلاح والتهذيب في رسمه وشكله وتمييز كل حرف بما يعين على النطق به صحيحا تمت للقرآن الكريم وسائل التكميل والضبط والتيسير .
- وأما المصدر التشريعي الثاني وهو السنة النبوية الشريفة فقد طرأ عليها ايضا في اول هذا العهد طارئ له اثرعظيم ، وذلك ان الخليفة عمر بن عبد العزيز كتب في عهد خلافته الى والي المدينة ابي بكر محمد بن عمرو بن حزم " انظر ما كان من حديث رسول الله فاكتبه فاني خفت دروس العلم وذهاب العلماء " وكلف ايضا بهذا التدوين محمد بن شهاب الزهري رحمهم الله جميعا . فقام كل منهما بتدوين ما استطاع تدوينه من السنة ، وبهذا بدأ تدوين نصوص المصدر التشريعي الثاني بشكل رسمي بعد ان لبثت في القرن الهجري الاول كله يرجع اليها في صدور رواتها وحفاظها فقط في الغالب ، وتتابع على هذا التدوين كثير من العلماء . ففي سنة 140 هـ  دون الامام مالك بن أنس رحمه الله كتابه "الموطأ" في صحيح الحديث بناء على طلب الخليفة المنصور رحمه الله ، وفي القرن الثاني الهجري دون أصحاب المسانيد في السنة مسانيدهم . (والمسند هو ما تجمع فيه الاحاديث حسب رواتها فيجمع ما رواه عمر على حدة ، وما رواه أبو بكر على حدة ، بصرف النظر عن موضوع الحديث ) وأقدم ما وصل الينا منها مسند الامام احمد رحمه الله ، وفي القرن الثالث الهجري دونت كتب الصحاح الستة التي هي صحيح البخاري ، ومسلم ، وابي داود ، والنسائي والترمذي ، وابن ماجه رحمهم الله جميعا . واذا قيل في الحديث رواه الستة ، او متفق عليه ، فالمراد انه رواه هؤلاء جميعهم ، ودون كثير غير هؤلاء عدة مجاميع في السنة .
-  ولكن هذا التدوين الذي حفظ السنة من الضياع لم يؤد الى جمع المسلمين على مجموعة واحدة من السنة تكون مرجعا لخاصتهم وعامتهم على السواء كما جمعت كلمتهم على نص القرآن الكريم ، ولهذا بقيت السنة بعد تدوينها  مجالا للاختلاف ، واليها منفذ للوضع والافتراء ، وقد فكر الخليفة المنصور العباسي رحمه الله في ان يجمع كلمة المسلمين على نص واحد من السنة  وينشره بينهم ليرجعوا اليه ، فأمر مالك بن انس ان يكتب من السنن كتابا يتجنب فيه رخص ابن عباس وشدائد ابن عمر ، فكتب الامام مالك كتابه "الموطأ" ، وأراد المنصور رحمه الله أن ينفذ فكرته ويحمل الناس على الرجوع اليه وحده ، فقال له مالك رحمه الله  لا سبيل الى ذلك يا أمير المؤمنين لأن الصحابة افترقوا بعد الرسول كل يتبع ما صح عنده ، وكلهم على هدى وكلهم يريد ثواب الله ، فعدل المنصور رحمه الله عما اراد .
- أسباب اختلاف الائمة المجتهدين وتكوين المذاهب: 
يرجع اختلاف المناهج التشريعية للأئمة المجتهدين الى اختلافهم في امور ثلاثة :
- الاول: في تقدير بعض المصادر التشريعية . 
- والثاني :في المناهج التشريعية . 
- والثالث: في بعض المبادئ اللغوية التي تطبق في فهم النصوص الشرعية.
-ا-  فأما اختلافهم في تقدير بعض مصادر التشريع فقد ظهر فيما يأتي :
- أولا في طريق الوثوق بالسنة والميزان الذي ترجح به رواية على رواية ، وذلك ان الوثوق بالسنة مبني على الوثوق برواتها وكيفية روايتها . وقد اختلف الائمة في طريق هذا الوثوق .
- فمجتهدو العراق:ابو حنيفة رحمه الله  وأصحابه يحتجون بالسنة المتواترة والمشهورة ويرجحون ما يرويه الثقات من الفقهاء ولهذا قال ابو يوسف رحمه الله ، وعليك بما عليه الجماعة من الحديث وما يعرفه الفقهاء . 
- ومجتهدو المدينة:  مالك رحمه الله  وأصحابه يرجحون ما عليه أهل المدينة بدون اختلاف ويتركون ما خالفه من اخبار الآحاد . 
-  وباقي الائمة : يحتجون بما رواه العدول الثقات من الفقهاء وغير الفقهاء وافق عمل أهل المدينة أو خالفه .
-  وترتب على هذا ان مجتهدى العراق جعلوا المشهور في حكم المتواتر وخصصوا به العام في القرآن وقيدوا به المطلق فيه ، وغيرهم لم يجعلوا له هذه القوة . 
- وترتب على ذلك أيضا ان الحديث المرسل (وهو ما رواه الصحابي بقوله أمر رسول الله بكذا ، او نهى عن كذا ، او قضى بكذا ، من غير ان يصرح بأنه سمع ذلك بنفسه او شافهه او شاهده ) يحتج به بعض رجال التشريع ولا يحتج به بعضهم . فهذا الاختلاف في طريق الوثوق بالسنة ادى الى ان بعضهم احتج بسنة لم يحتج بها الآخر ، وبعضهم رجح بسنة هي مرجوحة عند الآخر وعن هذا نشأ اختلاف الأحكام .
- وثانيا  في فتاوي الصحابة رضي الله عنهم وتقديرها : فإن الائمة اختلفوا في الفتاوى الاجتهادية التي صدرت عن افراد الصحابة . 
-  فابو حنيفة رحمه الله ومن تابعه منهجه بالنسبة اليها ان يأخذ بأية فتوى منها ولا يتقيد بواحدة معينة ولا يخرج عنها جميعا . 
-  والشافعي رحمه الله  ومن تابعه  منهجه بالنسبة اليها انها فتاوى اجتهادية فردية صادرة من غير معصومين فله ان يأخذ بأية فتوى منها ، وله ان يفتي بخلافها كلها ، وعن هذا نشأ ايضا اختلاف في الاحكام
- ثالثا في القياس :فإن بعض المجتهدين من الشيعة والظاهرية انكروا القياس ونفوا أن يكون مصدرا للتشريع ولهذا سموا  بنفاة القياس . وجمهور الائمة احتجوا بالقياس وعدوه المصدر التشريعي بعد القرآن والسنة والاجماع ولكنهم مع اتفاقهم على انه حجة اختلفوا فيما يصلح ان يكون علة للحكم ويبني عليه القياس . ونشأ عن هذا ايضا اختلاف في الاحكام .
ب- وأما اختلافهم في المناهج التشريعية : فقد ظهر في انقسامهم الى فريقين هما :
-  أهل الحديث ومنهم أكثر مجتهدي الحجاز .
-  وفريق أهل الرأي : ومنهم أكثر مجتهدي العراق .
- وليس معنى هذا الانقسام ان فقهاء اهل العراق لا يصدرون في تشريعهم عن الحديث ، وان فقهاء الحجاز لا يصدرون في تشريعهم عن الاجتهاد بالرأي ، لأنهم جميعا متفقون على ان الحديث حجة شرعية ملزمة ، وان الاجتهاد بالرأي أي بالقياس حجة شرعية فيما لا نص فيه . 
  وإنما معنى هذا الانقسام وسبب هذه التسمية ان فقهاء العراق أمعنوا النظر في مقاصد الشارع وفي الاسس التي بنى عليها التشريع ، فاقتنعوا بأن الاحكام الشرعية معقول معناها ومقصود بها تحقيق مصالح الناس . وبأنها تعتمد على مبادئ واحدة وترمي الى غاية واحدة ، وهي لهذا لا بد ان تكون متسقة ولا تباين بين نصوصها وأحكامها . وعلى هذا الاساس يفهمون النصوص ويرجحون نصا على نص ، ويستنبطون الأحكام فيما لا نص فيه ولو أدى استنباطهم على هذا الاساس الى صرف نص عن ظاهره . أو ترجيح نص على آخر أقوى منه رواية حسب الظاهر ، وهم من أجل هذا لا يتحرجون من السعة في الاجتهاد بالرأي ، ويجعلون له مجالا في أكثر بحوثهم التشريعية .
-  أما فقهاء الحجاز فقد عنوا بحفظ الاحاديث وفتاوى الصحابة ، واتجهوا في تشريعهم الى فهم هذه الآثار حسبما تدل عليه عبارتها ، وتطبقها على ما يحدث من الحوادث غير باحثين فى علل الاحكام ومبادئها ، فإذا وجدوا ما فهموه من النص لا يتفق مع ما يقتضيه العقل لم يبالوا بهذا وأخذوا بالنص . وكانوا من اجل هذا يتحرجون من الاجتهاد بالرأي ولا يلجأون اليه الا عند الضرورة القصوى .
مثلا :ورد في الحديث ان في كل اربعين شاة شاة . وان صدقة الفطر صاع من تمر او شعير ، وان من رد الشاة المصراة بعد احتلاب لبنها رد معها صاعا من تمر .
- فقهاء العراق: يفهمون هذه النصوص على ضوء معناها المعقول ومقصد الشارع من تشريعها . وهو ان مالك أربعين شاة يجب عليه ان ينفع الفقراء بواحدة أو ما يعادلها ، وأن المتصدق بصدقة الفطر يجب عليه أن ينفعهم بصاع من تمر أو ما يعادلها . واللبن المحتلب يضمن بمثله أو قيمته وليس خصوص الشاة او الصاع مقصودا للشارع . فمن تزكى بقيمة الشاة او تصدق بقيمة الصاع أو ضمن لبن المصراة بقيمته أجزأه لأن المقصود نفع الفقراء وتعويض المال المتلف .
-  أما فقهاء الحجاز: فيفهمون هذه النصوص حسبما تدل عليه عبارتها الظاهرة ولا يبحثون في علة التشريع ولا يتجهون الى التأويل بناء على مراعاة العلل المعقولة . وعلى هذا يوجبون الشاة بخصوصها ، والصاع بخصوصه ، ولا يجزئ في مذهبهم القيمة .
- وأهم الاسباب التي أدت الي اختلاف هاتين النزعتين هي : 
1 – ان الاحاديث وفتاوى الصحابة لم تكن كثيرة في العراق كثرتها في الحجاز . فالحجازيون وجدوا عندهم ثروة من الآثار اعتمدوا عليها في تشريعهم وركنوا اليها . وأما فقهاء العراق فلم تكن لديهم هذه الثروة فاعتمدوا على عقولهم ،واجتهدوا في تفهم معقول النص وعلة التشريع لتتسع معاني النصوص لما لم تتسع له الفاظها ، وأسوتهم في هذا أستاذهم عبد الله بن مسعود رحمه الله .
2 – ان العراق كان فيه الفتن التي أدت الى افتراء الاحاديث وتحريفها لأنه كان مهد الشيعة ومقر الخوارج ، وقد شاهد فقهاء العراق من الجرأة على وضع الاحاديث والتحريف فيها ما لم يشاهده فقهاء الحجاز ، فلهذا تشددوا في قبول الرواية والتزموا أن يكون الحديث مشهورا بين أهل الفقه وإذا وجدوا حديثا يفهم منه ما لا يتفق وحكمة الشارع أولوه أو تركوه .
3 – إن بيئة العراق غير بيئة الحجاز ، والاقضية والحوادث في البلدين مختلفة لأن دولة الفرس خلفت في العراق أنواعا من المعاملات والعادات والنظم لا يعهد مثلها في بلاد الحجاز فكان مجال الاجتهاد في العراق ذا سعة ، وأفق البحث ممتدا ، ولهذا تكونت في فقهاء العر اق ملكة البحث والتفكير وبدت لهم وجوه عديدة من الرأي والنظر في التشريع . وأما فقهاء الحجاز فقلما حدث لهم ما لم يحدث لسلفهم من التابعين والصحابة لأن البيئة واحدة وقلما حدث لهم ما لم يحفظوا في حكمه حديثا أو فتوى صحابي ، فلما لم يجدوا للاجتهاد المجال الذي وجده العراقيون اعتادوا فهم النصوص على ظواهرها ولم تدعهم الحاجة الى البحث في عللها او التعمق في مقاصدها .
ج - وأما اختلافهم في بعض المبادئ الاصولية اللغوية : فقد نشأ من اختلاف وجهات النظر في استقراء الاساليب العربية .
4- عهد التقليد:
-  سمي هذا الطور بعهد التقليد لأن همم العلماء فترت فيه عن الاجتهاد المطلق وعن الرجوع الى المصادر التشريعية الاساسية لاستمداد الاحكام من نصوص القرآن والسنة ، واستنباط الاحكام فيما لا نص فيه بأي دليل من الادلة الشرعية . والتزموا اتباع ما استمدوه من الائمة المجتهدين السابقين من الاحكام ، وقد ابتدأ هذا العهد من منتصف القرن الرابع الهجري بالتقريب حين طرأت على المسلمين عدة عوامل سياسية ، وعقلية وخلقية واجتماعية أترت في كل مظهر من مظاهر نهوضهم وأحالت نشاطهم التشريعي الى فتور ، وعود العلماء أنفسهم على التقليد ، وتعودوا أن يكونوا عالة على فقه الائمة السابقين أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد وأقرانهم رحمهم الله . وبلغ من ركونهم الى اقوال أئمتهم ان قال ابو الحسن الكرخي من علماء الحنفية  " كل آية أو حديث يخالف ما عليه أصحابنا فهو مؤول أو منسوخ " وبهذا وقف التشريع عند ما وصل اليه أئمة العهد السابق وقصر عن مسايرة ما يجد من التطورات والمعاملات والاقضية والوقائع .
- أسباب وقوف حركة الاجتهاد :
وأهم العوامل التي أدت الى وقوف الاجتهاد والركون الى التقليد: 
- أولا:انقسام الدولة الاسلامية الى ممالك يتناحر ملوكها وولاتها وافرادها ، مما شغل ولاة الامور وشغل الناس معهم بالحروب والفتن وإتقاء المكايد وتدابير وسائل القهر والغلبة ، فدب الانحلال العام وفترت الهمم في اكتساب العلوم والفنون ، مما أدى الى توقف حركة الاجتهاد .
- وثانيا: لما انقسم الائمة المجتهدون في العهد الثالث الى فرق وصار لكل فريق مدرسة تشريعية ، لها نزعتها ومنهجها ، عني تلاميذ كل مدرسة او اعضاء كل فريق بالانتصار لمذهبهم وتأييد أصوله وفروعه بكل الوسائل ، وصرفهم ذلك عن الاساس التشريعي الاول وهو القرآن والسنة ، فكانوا لا يرجعون الى نص منهما الا ليلتمسوا فيه ما يؤيد مذهب إمامهم ولو بضرب من التعسف والتأويل ، وبهذا فنيت شخصية العالم في مذهبه ، وماتت روح الإجتهاد عندهم . وصار الخاصة كالعامة أتباعا ومقلدين .
- وثالثا:لما أهمل المسلمون تنظيم السلطة التشريعية ولم يضعوا نظاما كفيلا بأن لا يجترئ على الاجتهاد الا من هو أهل له ، دبت الفوضى في التشريع والاجتهاد ، وادعى الاجتهاد من ليس أهلا له ، وتصدى لافتاء المسلمين جهال عبثوا بنصوص الشريعة وبحقوق الناس ومصالحهم ، وبهذا تعددت الاحكام في الاقضية ، حتى كان القضاء يختلف في البلد الواحد ، فتستحل دماء وأموال في ناحية من نواحي المدينة وتستباح في ناحية أخرى ، وكل ذلك نافذ في المسلمين ، وكله يعتبر من أحكام الشريعة ، فلما تجرأ هؤلاء على الإجتهاد حكم العلماء في أواخر القرن الرابع بسد باب الاجتهاد ، وتقييد المفتين والقضاة بأحكام الائمة السابقين ، فعالجوا الفوضى بالجمود .
- ورابعا: فشت في العلماء أمراض خلقية ، حالت بينهم وبين السمو الى مرتبة الاجتهاد ، فقد انتشر بينهم التحاسد والانانية ، فكانوا إذا طرق أحدهم باب الاجتهاد ، فتح على نفسه أبوابا من التشهير به وحط أقرانه من قدره ، وإذا أفتى في واقعة برأيه ، قصدوا الى تسفيه رأيه وتفنيد ما أفتى به بالحق وبالباطل ، فلهذا كان العالم يتق كيد زملائه ، بأنه مقلد ناقل ، لا مجتهد مبتكر ، وبهذا ماتت روح النبوغ وضعفت ثقة العلماء بأنفسهم ، وثقة الناس بهم ، فولوا وجوههم مذاهب الائمة السابقين .
-  جهود العلماء التشريعية في هذا العهد : 
هذه العوامل التي قعدت بالعلماء عن الاجتهاد المطلق ، واستمداد الاحكام الشرعية من مصادرها الاولى ، لم تقعدهم عن بذل جهود تشريعية في دوائرهم المحدودة ولهذا قسم العلماء المجتهدين الى طبقات أهمها: 
1- المجتهد المطلق أوالمستقل: وهو الذي تكونت عنده ملكة الاجتهاد بحيث يستطيع الاستنباط مباشرة من النصوص له أصوله التي أصلها وقواعده التي قعدها. يقوم باستقراء الأدلة التفصيلية واستنباط الأحكام الشرعية العملية منها بمراعاة ما أصله وقعده ، واجتهاده غير منحصر في باب من أبواب الفقه، فهو يتصرف في الأصول ويتكلم في المسائل التي لم يسبق بالجواب فيها . ويدخل في هذا القسم فقهاء الصحابة وفقهاء التابعين وأئمة المذاهب أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد والثوري والأوزاعي والليث بن سعد والطبري وداود بن علي وغيرهم قال السيوطي " وهذا شيء فقد من دهر،بل لو أراده الإنسان اليوم لامتنع عليه ولم يجز له،نص عليه غير واحد "  وذكر قولا يبين أن هذا الموقف من العلماء اجتهاد، الأمر الذي يعني عدم إلزام الأمة به،ولا يجوز الحجر على فضل الله على عباده الذي حكم بوجود الخير في أول الأمة وآخرها. وهذه المرتبة لم يصل إليها معظم أصحاب هذا الطور إلا ما نذر كابن تيمية على قول بعض العلماء.
2- المجتهد المنتسب: هو الذي ينتسب إلى مذهب من المذاهب الفقهية لأنه سلك طريقه في الاجتهاد ، بحيث يتفق مع إمام مذهبه في الأصول ويخالفه في الفروع ، فهو قادر على استنباط المسائل من الأدلة و ليس له منهاج خاص به ، إنما التزم بأصول إمام مذهبه إما على سبيل الاتفاق والمصادفة أوبما أداه إليه اجتهاده . وللمجتهد المنتسب اجتهاداته في عامة أبواب الفقه ، مثال أصحاب هذه الطبقة أصحاب أبي حنيفة أبي يوسف ومحمد وزفر ،  وأصحاب مالك ابن الماجشون وأشهب وابن القاسم  ، وأصحاب الشافعي البويطي والمزني ، وفتوى هؤلاء كفتوى المجتهد المستقل في العمل بها والاعتداد بها في الاجماع والخلاف ويسقط بوجوده فرض الكفاية عن المسلمين . ولم يصل الى هذه المرتبة في هذا الطور الا قلة من العلماء.
3-  المجتهد داخل المذهب: وهو المتبع لإمامه في الأصول والفروع ، فإذا وقعت حادثة خرج حكمها من أقوال إمامه إن وجد وإن لم يعرف لإمامه فيها نصا اجتهد على منواله ، فهو لا يتجاوز أصول إمامه ، ويستقل بتقرير مذهبه بالدليل ، وربما اكتفى في الحكم بدليل إمامه ، ولا يبحث عن معارض  مثال أصحاب هذه الطبقة  الحسن بن زياد والكرخي والطحاوي من الحنفية ، والأبهري وابن زيد من المالكية ، وأبي اسحاق الشيرازي والمروزي من الشافعية، ونحوهم من أصحاب التخريج على منصوص الإمام وهؤلاء العلماءا لا يتأدى بهم فرض الكفاية. ولم يصل الى هذه المرتبة في هذا الطور الا قلة من العلماء.
4- مجتهد الترجيح : وأصحاب هذه الطبقة يقتصرون على ترجيح قول على آخر لعلماء المذهب، ووجه من الوجوه الواردة لأصحاب المذهب على الآخر . ولايستنبطون أحكام فروع لم يجتهد فيها السابقون ولم يعرفوا حكمها ، وصاحب هذه المرتبة حافظ  لمذهب إمامه عارف بأدلته قائم بتقريرها ، يصور ويحرر ويقرر ، غايته تفضيل بعض الأقوال على البعض . والموازنة بين ما روي عن أئمتهم من الروايات المختلفة وترجيح بعضها على بعض من جهة الرواية ، او من جهة الدراية فيقول هذا أصح رواية ، او هذا اولى النقول بالقبول ، او هذا أوفق للقياس او ارفق للناس ، مثال أصحاب هذه الطبقة  القدوري والمرغيناني من الحنفية ومثل اللخمي وابن رشد والمازري وغيرهم من المالكية، وبواسطة أهل هذه المرتبة أمكن ضبط الأحكام الفقهية الكثيرة المنقولة عن أئمة المذاهب الأربعة ، ومعرفة الأقوال التي يصح الاعتماد عليها . وقد وصلت فئة من علماء هذا الطور الى هذه المرتبة,
- وبعد هذه الطبقات الأربع لم يبق الا أهل التقليد المحض وهم الذين يقلدون المذهب الذي ينتسبون إليه دون رجوع الى الدليل ، وغالب أهل هذا الطور من هذه الفئة . (انظر في ذلك أصول الفقه لأبي زهرة فقد فصل وأجاد في هذا الموضوع). 
- يستفاد من هذا ان جهود العلماء في هذا العصر اقتصرت على أقوال الائمة وتعليلها والترجيح بين المتعارض منها ، وصار معظمهم مقلدين ، ونسي العلماء ما قاله أبو حنيفة فيمن سبقه من الفقهاء  "هم رجال ، ونحن رجال "، وما قاله مالك بن أنس " ما من احد الا ويؤخذ من قوله ويترك الا المعصوم صلى الله عليه وسلم "، وقول الشافعي "إذا صح الحديث فهو مذهبي " رحمهم الله جميعا.
5- بوادر النشاط التشريعي الحديث: 
بدأ هذا العهد أواخر القرن الثالث عشر الهجري حيث جمعت الحكومة العثمانية طائفة من كبار علمائها وكلفتهم بوضع تشريع في المعاملات المدنية يكون مأخذه من الفقه الاسلامي ولو من غير المذاهب المعروفة متى كان الحكم المأخوذ يتمشى وروح العصر . وقد اجتمع هؤلاء العلماء وسنوا القانون الذي سمي ( مجلة الاحكام العدلية) في سنة 1286هـ وصدر مرسوم العمل به في سنة 1292 هـ
-وفي مصر خطت الحكومة في سنة 1920 م أولى خطواتها وأصدرت القانون رقم 25 لسنة 1920 الذي اشتمل على بعض الأحكام في الاحوال الشخصية تخالف مذهب ابي حنيفة ولكنها لم تخرج عن مذاهب الائمة الاربعة .
-واصدرت العديد من الدول الإسلامية قوانين الاحوال الشخصية التي لم تخرج في الغالب عن المذاهب الفقهية الأربعة .
-وكانت هناك خطوة اكثر تقدما في مجال الدراسات التشريعية الصادرة عن علماء الأمة ومؤسساتها العلمية والفتاوى الصادرة عن الهيئات الشرعية .
- بعض مظاهر النهضة التشريعية الحديثة:
للنهضة التشريعية الحديثة وجوه متعددة منها:
- بروز حركة التقنين في الفقه الإسلامي مثال ذلك مجلة الأحكام العدلية التي تضمنت حوالي مائة قاعدة فقهية في مجال المعاملات.
- انعقاد المؤتمرات والندوات لدراسة القضايا التشريعية.
- انشاء الجامعات والكليات والأقسام المتخصصة في الدراسات الشرعية وتطوير الجامعات العتيقة كالأزهر والزيتونة والقرويين.
- إنشاء المجمعات الفقهية والهيئات الشرعية التي تصدر الدراسات والفتاوى الشرعية بالنسبة للمستجدات الواقعة في حياة المسلمين اعتمادا على مقاصد الشريعة بما لايخالف التوابث الشرعية ويساير روح العصر ويحقق مصالح الناس.
- بروز المنهج المقارن في التأليف والتدوين التشريعي خروجا عن سيطرة الروح المذهبية التي كانت في عصر الركود.
- الإستفادة من المناهج القانونية الحديثة ببروز ظاهرة التقسيم والتبويب والتصنيف في الدراسات الشرعية لتيسير الرجوع إليها وبذلك تتميز المصادر العلمية التعليمية عن المصادر القضائية .
- ظهور الموسوعات الفقهية من ذلك:
            - موسوعة الفقه الإسلامي الصادرة عن كلية الشريعة بدمشق سنة 1956.
            - فهرس ابن عابدين لأحمد مهدي خضر سنة 1963.
            - معجم فقه ابن حزم الظاهري الصادر عن كلية الشريعة بدمشق سنة 1966.
            - موسوعة عبد الناصر الصادرة عن المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بالقاهرة.
            - معجم الفقه الحنبلي الصادر عن وزارة الأوقاف الكويتية.
            - الموسوعة الفقهية الكويتية الصادرة عن وزارة الأوقاف الكويتية.
وعسى أن نعتمد في سن قوانيننا على الشريعة التي تحقق مصالح الناس وتساير روح العصر وتطوراته ، دون مخالفة نص في القرآن أوالسنة ولو لم نقتصرعلى مذاهب السابقين ، وبذلك يبعث النشاط التشريعي الاسلامي من مرقده ويحيا الفقه الاسلامي بالتطبيق العملي والدراسة المقارنة وهذا ما بدأت بوادره تظهر بوضوح مع الصحوة المباركة والله ولي التوفيق ( انظر كتاب الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد الحجوي الثعالبي. والتشريع والفقه في الإسلام تاريخا ومنهاجا لمناع القطان. وخلاصة تاريخ التشريع الإسلامي لعبد الوهاب خلاف رحمه الله وموقع الموسوعة الشاملة الإصدارالأخير )
والحمد لله رب العالمين
======================
- فهرس الموضوعات:
1- تمهيد:
        ا- مفهوم الفقه والشريعة والفرق بينهما.
       ب- موضوع الفقه وخصائصه.
2- أطوار الفقه الإسلامي:
     ا- عهد الرسول صلى الله عليه وسلم:
ا-1- من تولى السلطة التشريعية في هذا العهد.
ا-2- مصادرالتشريع في هذا العهد.
ا-3- الخطة التشريعية في هذا العهد.
ا-4 - ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية.
ا-5- مقدار النصوص المرتبطة بالأحكام الفقهية.
ا-6- أسلوب النصوص المرتبطة بالأحكام الفقهية.
ا-7- أنواع الأحكام التي اشتملت عليها النصوص المرتبطة بالأحكام الشرعية.
   ب- عهد الصحابة رضوان الله عليهم :
       ب- 1- من تولى سلطة الإجتهاد في هذا العهد.
       ب- 2- مصادرالتشريع في هذا العهد.
       ب- 3- ما طرأ على مصادرالتشريع في هذا العهد.
       ب- 4- ما خلفه هذا العهد من آثار تشريعية.
ج- عهد الأئمة المجتهدين رحمهم الله:
    ج-1- الأسباب المؤدية الى نمو الفقه في هذا العهد.
    ج-2- من تولى سلطة الإجتهاد في هذا العهد.
    ج-3- مصادرالتشريع في هذا العهد.
    ج-4- ما طرأ على مصادرالتشريع في هذا العهد.
    ج-5- أسباب إختلاف الأئمة المجتهدين وتكوين المذاهب.
  د- عهد التقليد:
      د-1- أسباب وقوف حركة الإجتهاد.
      د-2- جهود العلماء التشريعية  في هذا العهد.
ه- بوادر النشاط التشريعي الحديث.
- المصادر والمراجع:
- الفكر السامي في تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد الحجوي الثعالبي.
- تاريخ الفقه الإسلامي لمحمد يوسف موسى.
- خلاصة تاريخ التشريع الإسلامي لعبد الوهاب خلاف.
- تاريخ التشريع الإسلامي لمحمد الخضري.
-  المذاهب الإسلامية لمحمد أبو زهرة.
- المدخل للتشريع الإسلامي لفاروق النبهان.
- المدخل الفقهي العام لمصطفى أحمد الزرقاء.
- إعلام الموقعين عن رب العالمين لإبن القيم الجوزية.
- التشريع والفقه في الإسلام تاريخا ومنهاجا لمناع القطان.
- مناهج التشريع الإسلامي في القرن الثاني الهجري لمحمد بلتاجي..
- نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي لعلي حسن عبد القادر.
- محاضرات في تاريخ الفقه الإسلامي لفرج السنهوري.
- المدخل للفقه الإسلامي تاريخه ومصادره ونظرياته العامة لمحمد سلام مدكور.
- لائحة الأقراص المدمجة:
- مكتبة التفسير شركة العريس للكمبيوتر بيروت لبنان.
- مكتبة التفسير وعلوم القرآن إعداد الخطيب للتسويق والبرامج. الإشراف العلمي: مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- المكتبة الألفية للسنة النبوية إعداد الخطيب للتسويق والبرامج الإشراف العلمي: مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- الموسوعة الذهبية للحديث النبوي الشريف وعلومه إعداد الخطيب للتسويق والبرامج، الإشراف العلمي مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- مكتبة الأجزاء الحديثة إعداد الخطيب للتسويق والبرامج. الإشراف العلمي: مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- المحدث تصميم وإدارة طلبة دار الحديث النبوي الشريف سابقا " مدرسة" واشنطن أمريكا.
- مكتبة الفقه وأصوله إعداد الخطيب للتسويق والبرامج. الإشراف العلمي: مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- الفقه وأصوله موسوعة علماء الإسلام الدكتور يوسف القرضاوي المركز الهندسي للأبحاث التطبيقية RDI  .
- موسوعة الفقه الإسلامي وأصوله إعداد قسم البرمجة دار الفكر دمشق سوريا.
- مكتبة الفقه الإسلامي شركة العريس للكمبيوتر بيروت. لبنان.
- الموسوعة الميسرة في الفقه وعلومه إنتاج برمجيات ضاد. المملكة العربية السعودية.
- مؤلفات شيـخ الإسلام بن تيمية إعداد الخطيب للتسويق والبرامج الإشراف العلمي مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- الفتاوى الكبرى لابن تيمية عبد اللطيف للمعلومات.
- مؤلفات العالم الرباني ابن قيم الجوزية إعداد الخطيب للتسويق والبرامج الإشراف العلمي مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- مكتبة شيـخ الإسلام وتلميذه ابن القيم إعداد الخطيب للتسويق والبرامج الإشراف العلمي: مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي. عمان الأردن.
- العلوم الإسلامية إعداد الخطيب للتسويق والبرامج الإشراف العلمي مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي. عمان الأردن.
- موسوعة طالب العلم الشرعي إعداد الخطيب للتسويق والبرامج الإشراف العلمي مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- الموسوعة الإسلامية المعاصرة Microteam Software
- مكتبة المعاجم والغريب والمصطلحات إعداد الخطيب للتسويق والبرامج الإشراف العلمي مركز التراث لأبحاث الحاسب الآلي عمان الأردن.
- جامع معاجم اللغة شركة العريس للكمبيوتر بيروت لبنان
- المكتبة الشاملة الإصدار الأول والثاني والتحديث الأخير المبثوثة على شبكة الأنترنيت ws. WWW.shamela
   وصلى الله وسلم و بارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين

bottom of page